Saturday, June 23, 2007

المواردة .... الفصل الأول

(1)
صوت الصمت

في وسط الصحراء القاحلة حيث الحياة شبه مستحيلة وحرارة الشمس لا تسمح لغير الرمال بالنمو والانتشار، حيث لا تسمع سوي صوت الصمت والسكون تبدده بين الحين والآخر أصوات حفيف الرمال التي تجرفها الرياح لتتموج في بحر من الكثبان. حياة لا تعرف سوي اللون الأصفر، بحر من الرمال الصفراء تسطع عليها شمس تزيدها اصفرارا حتى إذا دخل الليل تحول كل شىء إلي الموت وأكتسى باللون الأسود حدادا علي يوم راح وأنقضي.
في وسط هذا البحر الساكن وكما تنبت نبتة صغيرة قوية داخل شرخ صخري، نبتت عزبة المواردة منذ الآف السنين، وحول عين المياة الساحرة العذبة تجمع أهالي المواردة بملامح بشرتهم السمراء، تكسوها ابتسامة أقرب إلي الرضا منها إلي السعادة. يجمعهم حب فيما بينهم، لا يعرفون الهدوء، في حركة دائبة وسعي حثيث من أجل لقمة العيش، كثير منهم يعلمون ما من الله عليهم به في وسط هذه الصحراء فيحاولون بفطرتهم المحافظة علي ما منً الله به من نعمة عليهم.
المواردة مجتمع عجيب من البشر، تجمعهم صفات عديدة مشتركة فيما بينهم، يهيمون عشقا في أرضهم لدرجة الجنون، يتفاخرون بحضارتهم لدرجة الكبر والغرور مما يصور لهم أنفسهم في معظم الأحوال أنهم أرقى من كل من حولهم، هم في حالة رضا وقناعة مستمرة إلي درجة البلادة. أفواههم تنطق دائما بالرضا الكامل أو بالنقمة وقمة السخط، وفي الحالتين لا يفعلون شيئا سوى الصبر والسكون. يعشقون الكلمة الطيبة أكثر مما يحبون المال بل أنهم قد يستغنوا بها عن مطعمهم ومشربهم أحيانا. مجتمع تجمعه القرابة والأصل الواحد، وبالرغم من مرور العديد والعديد من الغرباء، إلا أن هؤلاء لم يستطيعوا تغيير تلك المواصفات العجيبة للمواردة، بل أنصهرهؤلاء الغرباء في تلك البوتقة وأصبحوا ينافسون المواردة الأصليون في تلك الصفات والخصائص الفريدة.
بطبعهم لا يسعون إلي الشهرة والسلطة،لا يحبون المال إلا من أجل لقمة العيش، يحبون العيش بسلاسة بعيدا عن أعباء إضافية تؤرقهم، قد يكون نوعا من رفض تحمل المسؤلية، وقد يكون درسا تعلموه من الماضي عن أجدادهم، فكثيرة هي الروايات التي تروى عن أهل النفوذ والسلطة، وكيف لا يهنأون براحة البال مثلهم، وكيف أن مأكلهم ومشربهم حرام، وكيف هو جبروتهم في سحق معارضيهم، وكيف هم عندهم فراسة لمعرفة المعارض حتى بقلبه دون أن ينطق بكلمة، وكيف كان مصير هذا المعارض من المهانة والتعذيب والقتل وتشريد أهله وسحلهم وجعله عبرة لمن يعتبر.
هذه الروايات التي تعددت وتنوعت بأمثلة لا حصر لها رويت علي لسان العديدين ممن يؤكدونها ويقسمون أنهم عاشوا ورأوا تفاصيلها الدقيقة، كل هذه الروايات ولدت قناعة لدي المواردة عموما بالبعد عن السلطة والزعامة، ووسط هذه الصحراء حيث هذه الجنة الموعودة المسماة بعزبة المواردة، وأهلها المسالمين أو الزاهدين في السلطة، مرت قوافل العصابات المختلفة التي رأت من المواردة صيدا سهلا، فأستقرت فيها وفرضت إتاواتها وحكمها الجائر عليهم، وما تكاد تلك العصابة أن تضعفف شوكتها أو تخمل حتى تأتي أخري فتأخذ مكانها وحينها يكتفي المواردة بالمشاهدة وإيثار عدم التدخل والترقب لما هو آت.
مضى علي تلك الحالة مئات أو الاف السنين، لا أحد يذكر ولا يريد حتى أن يذكر، كل ما يقال هنا أو هناك هو همهمات تعبيرا عن الرضا بالقضاء والقدر ونصائح بعدم التحدث في مثل هذه الأمور حتى لا يحدث لك مثل فلانا الذي قتلوه وشردوا أهله، ولم يمنع هذا ذلك الشعور الدفين بالمرارة والقهر الداخلي الذي يشعر به كل المواردة في ظل هذه البيئة البشرية الحزينة التي تسكن جنة لا تدرك من ثمارها شيئا يذكر، اللهم إلا قوت يومها، وحتى هذا ينازعهم فيه الغرباء والعصابات التي تحكمهم وتسلب خيراتهم.

*****